كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فاجتمع الناس في المسجد فقالوا: نحن بني تميم بخطيبنا وشاعرنا، نشاعرك ونفاخرك؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا».
فقال الزبرقان لشاب منهم: فخروا ذكر فضل قومك، فقال: الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه، وآتانا أموالًا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عددًا ومالًا وسلاحًا، فمن أنكر علينا فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعل هو أحسن من فعلنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيبه: «قم فأجبه»، فقال: «الحمد لله أحمده وأستعينه وأومن به وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، دعا المهاجرين من بني عمه أحسن الناس وجوهًا وأعظمهم أحلامًا فأجابوه، والحمد لله الذي جعلنا أنصار دينه ووزراء رسوله وعزًا لدينه، فنحن نقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فمن قالها منع نفسه وماله، ومن أباها قتلناه وكان رغمه علينا هينًا، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات».
وقال الزبرقان لشاب: قم فقل أبياتًا تذكر فيها فضل قومك، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ** فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع

ونطعم النفس عند القحط كلهم ** من السيف إذا لم يؤنس الفزع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد ** إنا كذلك عند الفخر نرتفع

فأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا حسان بن ثابت، فقال له: أعدلي قولك فأسمعه، فأجابه:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم ** قد شرعوا سنة للناس تتبع

يوصي بها كل من كانت سريرته ** تقوى الإله فكل الخير يطلع

ثم قال حسان في أبيات:
نصرنا رسول الله والدين عنوة ** على رغم غاب من معد وحاضر

بضرب كأنواع المخاض مشاشة ** وطعن كأفواه اللقاح المصادر

وسل أحدًا يوم استقلت جموعهم ** بضرب لنا مثل الليوث الخوادر

ألسنا نخوض الموت في حومة الوغا ** إذا طاب ورد الموت بين العساكر

فنضرب هامًا بالذراعين ننتمي ** إلى حسب من جذع غسان زاهر

فلولا حياء الله قلنا تكرمًا ** على الناس بالحقين هل من منافر

فأحياؤنا من خير من وطء الحصا ** وأمواتنا من خير أهل المقابر

قال: فقام الأقرع بن حابس فقال: إني والله لقد جئت لأمر، وقد قلت شعرًا فاسمعه، وقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا ** إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وإنا رؤوس الناس في كل غارة ** تكون بنجد أو بأرض التهائم

وإن لنا المرباع في كل معشر ** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان: «قم فأجبه»، فقام وقال:
بني درام لا تفخروا إن فخركم ** يصير وبالًا عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم ** لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد كنت غنيًا يا أخا دارم أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد لتنوه».
فكان قوله عليه الصلاة والسلام أشد عليهم من جميع ما قاله حسان، ثم رجع حسان إلى شعره فقال:
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم ** وأموالكم أن تقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا الله ندًا وأسلموا ** ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا ورب البيت قد مالت القنا ** على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقال الأقرع بن حابس: والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولا، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يضرك ما كان قبل هذا»، ثم أعطاهم وكساهم.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، وذلك أن المناداة من وراء الحجرات فيها رفع الصوت وإساءة الأدب، والله قد أمر بتوقير رسوله وتعظيمه.
والوراء: الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام، ومن لابتداء الغاية، وإن المناداة نشأت من ذلك المكان.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أفرق بين الكلامين، بين ما تثبت فيه وما تسقط عنه.
قلت: الفرق بينهما: أن المنادى والمنادي في أحدهما يجوز أن يجمعهما الوراء، وفي الثاني لا يجوز، لأن الوراء تصير بدخول من مبتدأ الغاية، ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن يكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد.
والذي يقول: ناداني فلان من وراء الدار، لا يريد وجه الدار ولا دبرها، ولكن أي قطر من أقطارها، كان مطلقًا بغير تعين ولا اختصاص.
انتهى.
وقد أثبت أصحابنا في معاني من أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد، وأن الشيء الواحد يكون محلًا لهما.
وتأولوا ذلك على سيبويه وقالوا من ذلك قولهم: أخذت الدرهم من زيد، فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معًا.
قالوا: فمن تكون لابتداء الغاية فقط في أكثر المواضع، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معًا.
وهذه المناداة التي أنكرت، ليس إنكارها لكونها وقعت في إدبار الحجرات أو في وجوهها، وإنما أنكر ذلك لأنهم نادوه من خارج، مناداة الأجلاف التي ليس فيها توقير، كما ينادي بعضهم بعضًا.
والحجرات: منازل الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت تسعة.
والحجرة: الرفعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها.
وحظيرة الإبل تسمى حجرة، وهي فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة.
وقرأ الجمهور: {الحجرات}، بضم الجيم اتباعًا للضمة قبلها؛ وأبو جعفر، وشيبة: بفتحها؛ وابن أبي عبلة: بإسكانها، وهي لغى ثلاث، في كل فعلة بشرطها المذكور في علم النحو.
والظاهر أن من صدر منه النداء كانوا جماعة.
وذكر الأصم أن من ناداه كان الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فإن صح ذلك، كان الإسناد إلى الجماعة، لأنهم راضون بذلك؛ وإذا كانوا جماعة، احتمل أن يكونوا تفرقوا، فنادى بعض من وراء هذه الحجرة، وبعض من وراء هذه، أو نادوه مجتمعين من وراء حجرة حجرة، أو كانت الحجرة واحدة، وهي التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وجمعت إجلالًا له؛ وانتفاء العقل عن أكثرهم دليل على أن فيهم عقلًا.
وقال الزمخشري: ويحتمل أن يكون الحكم بقلة العقلاء فيهم قصدًا إلى نفي أن يكون فيهم من يعقل، فإن القلة تقع موقع النفي في كلامهم. انتهى.
وليس في الآية الحكم بقلة العقل منطوقًا به، فيحتمل النفي، وإنما هو مفهوم من قوله: {أكثرهم لا يعقلون}.
والنفي المحض المستفاد إنما هو من صريح لفظ التقليل، لا من المفهوم، فلا يحمل قوله: {ولكن أكثرهم لا يشكرون} النفي المحض للشكر، لأن النفي لم يستفد من صريح التقليل.
وهذه الآية سجلت على الذين نادوه بالسفه والجهل.
وابتدأ أول السورة بتقديم الأمور التي تنتمي إلى الله تعالى ورسوله على الأمور كلها، ثم على ما نهى عنه من التقديم بالنهي عن رفع الصوت والجهر، فكان الأول بساطًا للثاني، ثم يلي بما هو ثناء على الذين امتنعوا من ذلك، فغضوا أصواتهم دلالة على عظم موقعه عند الله تعالى.
ثم جيء على عقبه بما هو أفظع، وهو الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته ببعض حرمه من وراء الجدار، كما يصاح بأهون الناس، ليلبيه على فظاعة ما جسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، كان صنيع هؤلاء معه من المنكر المتفاحش.
ومن هذا وأمثاله تقتبس محاسن الآداب.
كما يحكى عن أبي عبيد ومحله من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى أنه قال: ما دققت بابًا على عالم قط حتى يخرج في وقت خروجه.
{ولو أنهم صبرو حتى تخرج إليهم}، قال الزمخشري: {أنهم صبروا} في موضع الرفع على الفاعلية، لأن المعنى: ولو ثبت صبرهم.
انتهى، وهذا ليس مذهب سيبويه، أن أن وما بعدها بعد لو في موضع مبتدأ، لا في موضع فاعل.
ومذهب المبرد أنها في موضع فاعل بفعل محذوف، كما زعم الزمخشري.
واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من صبروا، أي لكان هو، أي صبرهم خيرًا لهم.
وقال الزمخشري: في كان، إما ضمير فاعل الفعل المضمر بعد لو.
انتهى، لأنه قدر أن وما بعدها فاعل بفعل مضمر، فأعاد الضمير على ذلك الفاعل، وهو الصبر المنسبك من أن ومعمولها خيرًا لهم في الثواب عند الله، وفي انبساط نفس الرسول صلى الله عليه وسلم وقضائه لحوائجهم.
وقد قيل: إنهم جاءوا في أسارى، فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف وفادى على النصف، ولو صبروا لأعتق الجميع بغير فداء.
وقيل: لكان صبرهم أحسن لأدبهم.
{والله غفور رحيم}، لن يضيق غفرانه ورحمته عن هؤلاء إن تابوا وأنابوا.
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة} الآية، حدث الحرث بن ضرار قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فأسلمت، وإلى الزكاة فأقررت بها، فقلت: أرجع إلى قومي وأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن أجابني جمعت زكاته، فترسل من يأتيك بما جمعت.
فلما جمع ممن استجاب له، وبلغ الوقت الذي أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، واحتبس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لسروات قومه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتًا إلى من يقبض الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس الرسول إلا من سخطه.
فانطلقوا بها إليه، وكان عليه السلام البعث بعث الوليد بن الحارث، ففرق، فرجع فقال: منعني الحارث الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحارث، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة، فقالوا: هذا الحارث، إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك قال: ولم؟ فقالوا: بعث إليك الوليد، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من الله ورسوله، قال: فنزلت هذه الآية.
وفاسق وبنبأ مطلقان، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل، وتقدم قراءة {فتبينوا} و{فتثبتوا} في سورة النساء، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم.
وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن، لا بالحرف المقتضي للتحقيق، وهو إذا، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب، إنما كان على سبيل الندرة.
وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم، ونبا ما يترتب على كلامه.
فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت، كف عن مجيئهم بما يريد.
{أن تصيبوا}: مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، {بجهالة} حال، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق، {فتصبحوا}: فتصيروا، {على ما فعلتم}: من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق، {نادمين}: مقيمين على فرط منكم، متمنين أنه لم يقع.
ومفهوم {إن جاءكم فاسق}: قبول كلام غير الفاسق، وأنه لا يتثبت عنده، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل.
وقال قتادة: لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التثبت من الله والعجلة من الشيطان» وقال مقلد بن سعيد: هذه الآية ترد علي من قال: إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن الله تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى.
وليس كما ذكر، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق، لا مجيء المسلم، بل بشرط الفسق.
والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقًا، فالاحتياط لازم.
{واعلموا أن فيكم رسول الله}: هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد بالنصيحة.
ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة، لأن الله تعالى لا يترك نبيه صلى الله عليه وسلم يعتمد على خبر الفاسق، بل بين له ذلك.
والظاهر أن قوله: {واعلموا أن فيكم رسول الله} كلام تام، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تخبروه بما لا يصح، فإنه رسول الله يطلعه على ذلك.
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه {لعنتم}: أي لشق عليكم.
وقال مقاتل: لأتمتم.
وقال الزمخشري: والجملة المصدرة بلولا تكون كلامًا مستأنفًا لأدائه إلى تنافر النظم، ولكن متصلًا بما قبله حالًا من أحد الضميرين في فيكم المستتر المرفوع، أو البارز المجرور، وكلاهما مذهب سديد، والمعنى: أن فيكم رسول الله، وأنتم على حالة يجب عليكم تغييرها، وهو أنكم تحاولون منه أن يعمل في الحوادث على مقتضى ما يعن لكم من رأي واستصواب فعل المطواع لغيره، والتابع له فيما يرتئيه المحتذي على أمثلته، ولو فعل ذلك {لعنتم}: أي لوقعتم في الجهد والهلاك.
وهذا يدل على أن بعض المؤمنين زينوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم الإيقاع ببني المصطلق، وتصديق قول الوليد، وأن نظائر ذلك من الهنات كانت تفرط منهم، وأن بعضهم كانوا يتصونون، ويزعهم جدهم في التقوى عن الجسارة على ذلك، وهم الذين استثناهم بقوله: {ولكن الله حبب أليكم الإيمان}: أي إلى بعضكم، ولكنه أغنت عن ذكر البعض صفتهم المفارقة لصفة غيرهم، وهذا من إيجازات القرآن ولمحاته اللطيفة التي لا يفطن إليها إلا الخواص.
وعن بعض المفسرين: هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى.
انتهى، وفيه تكثير.
ولا بعد أن تكون الجملة المصدرة بلو مستأنفة لا حالًا، فلا تعلق لها بما قبلها من جهة الإعراب.